|
إن الشعوب المتعلمة والمثقفة والواعية هي - وحدها - من تملك زمام التغيير؛ لأن العلم يجعلها أكثر خشية لله فلا تخشى غيره (إنما يخشى الله من عباده العلماء) وبهذا تكون الشعوب المتعلمة أكثر من غيرها استعصاء على الترغيب؛ لعلمها أن رزقها بيد الله (وفي السماء رزقكم) ولا تخشى الترهيب لإيمانها بأنه (لك أجل كتاب). فإذا كان الرزق والأجل كلاهما بيد الله وحده (لا بيد الحكام) فما مبرر بقاء الخوف والجزع (!) إن الوعي والعلم يجعل إرادة الشعوب حديدية وباستطاعتها تغيير مجرى التأريخ وقلب الموازين، وهذا ما ظهر جليا في تلك الانتفاضة التي سطرها الشعب التونسي بحروف من نور حتى أضاء بريقها المغربين والمشرقين؛ فأضاءت للشعوب والحكومات والمعارضات طريقا مستقيما لا عوجا فيه ولا أمتا؛ إذا ما سعى الجميع إلى الاستفادة من دروسها (عبرها وعبراتها).
إن أفضل درس تعلمته الشعوب - أو ينبغي عليها تعلمه - من بريق تلك الانتفاضة: أن التغيير لم يعد صعبا أو مستحيلا، بل أصبح أقرب إلى الشعوب من شراك نعلها ومن حبل وريدها، وما ينبغي أن يتعلمه الحكام ويعوه جيدا – إذا ما أرادوا – أن هناك ماردا نائما في قلوب الشعوب العربية والإسلامية، وبيد الحكام - وحدهم - تركه نائما أو إيقاظه، ويتحتم حصول الثاني؛ إذا ما استمر الحكام على غيهم واستمرءوا مصادرات الحريات وامتهان الكرامات والمضي في طريق إفقار الشعوب وتجويعها وتخويفها. أما المعارضة -بوجه عام – واليمنية - بوجه خاص - ينبغي عليها أن تقرأ الانتفاضة بفكر وقاد لتعلم أن الشعب ما امتلك زمام التغيير وإرادته إلا لأنه أصبح وأمسى لا تنطلي عليه حيل الأنظمة من الترغيب والتهديد؛ إذ علمه ووعيه منعه من السقوط في فخ الحكام، وهذا - للأسف - ما يفتقده الشعب اليمني؛ لهذا ما يزال النظام يراهن عليه.
وما ينبغي أن يتعلمه الجميع - وهو الأهم - أن (فوبيا الخوف) قد انتقلت بفعل ضوء الانتفاضة التونسية وبريقها من قلوب الشعوب إلى قلوب الحكام وأفئدتهم، وهي بذلك قد غيرت قوانين المعادلة ومجراها؛ إذ كانت الشعوب تحسب للحاكم [ألف] حساب، فصار لزاما على الحكام - من الآن وصاعدا - أن تحسب لشعوبها (تريليونات) من الحساب؛ لأنه يترتب على عدم الحساب الدقيق والاستفادة من هذا الدرس رحيلهم رحيلا مخزيا؛ إذ الشعوب الحية لن ترضى أن تضل راكعة خانعة مسلوبة الحرية والكرامة، وشعب تونس قد منح كافة شعوب الأرض الحياة وبعثها فيهم من جديد إذ بفضل الله ثم بفضلها سوف تتولد الإرادات وهبات التغيير، وما أصدق بيت الزبير الذي أسس حروفه وكلماته وجمله عهدٌ قاتمٌ عاشه الزبير وخبره تماما لينتهي من تجربة الأليمة التي عاش أحداثها إلى القول:
والشعب لو كان (حيا) ما استخف به فــرد ولا عاش فيه الظــلم النهــم
فهل تيقن المشترك بأن الشعب اليمني قد تحقق فيه شرط الحياة ؟ وهل تحققت فيه علاماتها من العلم والوعي؛ بحيث أصبح يراهن بملء فيه ويعول عليه في إحداث التغيير عبر هبة مرتقبة ؟ هل أدرك المشترك الفرق الكبير بين الشعبين اليمني والتونسي ؟ وهل علم أن الشعب لا يصير حيا إلا إذا كان متسلحا بالعلم؛ إذ جهل الشعوب هو طامة المجتمعات وداءها؛ لأن جهله يجعله - دائما - يصب في خانة النظام الحاكم؛ إما بالترغيب تارة، وإما بالتهديد والوعيد تارة أخرى، وهذا - أيضا - هو حال الشعب اليمني.
إن سحرة فرعون عندما تعلموا وتلقنوا الدرس ووعوه جيدا من لدن نبي الله موسى - عليه السلام – لم يأبهوا لوعيد الحاكم (فرعون) ولا لتهديداته؛ حيث صرخوا في وجهه (لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) (طـه72). وقد كان السحرة قبل حصول البيان أو البينة أكثر ميلا إلى ترغيب الحاكم وإغراءاته (وَجَاء السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإَنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) فعلى الرغم من العرض المغري من فرعون؛ فأنه لم ينجح فيه حينما حصل العلم للسحرة وبلغتهم البينة. ولما لم يُجدِ الترغيب؛ لجأ الطاغية الأكبر إلى استعمال الوسيلة الثانية (الترهيب) بيد أن هذه الوسيلة أيضا لم تفلح مع حصول العلم ورسوخ البينة؛ بل زاد ذلك الوعيد السحرة إصرار ومضيا. (لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ)؛
فالشعوب بأمس الحاجة إلى البينة والتعليم والتثقيف. وبناء عليه ينبغي أن تفهم المعارضات - قبل الشعوب - أن غرس الفهم والبينة في الشعوب تأتي على رأس الأهمية عند إرادة جني التغيير عبر هباتها، فإذا ما حصل لها الفهم ووصلتها البينة؛ فإنها عند ذلك سوف تنتفض لوحدها ولن يوقف هبتها ترغيب الحاكم أو ترهيبه. أما أن تبقى الشعوب على جهلها وسذاجتها فليس للمعارضة أن تراهن عليها في إحداث التغيير؛ لأن بقاءها على ذلك يجعلها لقمة سائغة في فم النظام يسهل عليه ابتلاعها؛ والاستخفاف بها فلا تلمك إلا أن تطيعه راغبة تارة وراغمة تاراتٍ أخر. وهما سلاحان تمتلكهما الأنظمة وليس للمعارضات فيهما أي نصيب؛ إذ لا تجد ما ترغِّب به الشعب ولا ما ترغمه به، ولا يبقى بيدها إلا سلاح واحد من شأنه أن يستعصِ على الوسيلتين السابقتين؛ وهو إيجاد الشعب الحي المتسلح بالعلم والبينة؛ بما يعني تحقق شرط الزبيري في الشعب الذي ننشد من خلاله التغيير وحتى لا تتحول تلك الهبة التي يراهن عليها المشترك في إحداث التغيير إلى نكبة ويخسر الرهان.
في الأحد 16 يناير-كانون الثاني 2011 07:55:47 م