|
في كل الأحداث التي تمر بها الأمة في عصرنا هذا ، تتجلى الحكمة اليمنية ولكن بصورة بئيسة تشبه بؤس أصحابها في زمن التخلف ، ولا سيما من أهل السلطة ، ففي أحداث 1992م مثلاً وثورة الجياع في اليمن حاول جائعون اقتحام مبنى محافظة تعز ، والعبرة التي استفادتها السلطة من تلك الأحداث هي ضرورة رفع الأسوار أكثر ، ومازالت الحجارة المختلفة عن سابقاتها في تلك الأسوار شاهدة على هذه العبرة! ومقابل ارتفاع أسوار المباني انخفضت أسوار العدل وسقوف الحريات!.
وبعد أحداث مصر استفادت السلطة من الدرس ، وقامت بنصب الخيام في ميدان التحرير حتى لا يصل إليه الثوار ، كأن الميدان هو الذي ثار وانتصر ، وبين جِمال وبِغال الحزب الوطني في مصر وخيام المؤتمر الشعبي وحصانه الجموح ، ضاعت الصعبة وتفتقت العقلية البدوية المتخلفة ، وحضرت (الصعلكة) السياسية ، حيث استأجرت السلطات (بلاطجة) القاهرة و (شقاة) صنعاء ، من أجل الهتاف بوحدانية المستبد ، سواء جاء من نسل الفراعنة أو انبعث من ركام قوم عاد!. يا إلهي كم هو مؤلم ووضيع أن ترى الفضيحة تهتف بحياة جلّادها!
ومهما يكن الأمر ، فإن نظام الرئيس (الصالح) رغم قبليته ، إلا إنه أذكى من نظامي ابن علي ومبارك ، إذ استفاد من رصيد الحكمة اليمانية ، ومن خبرته في ترويض الوحوش والرقص على رؤوس الثعابين ، مما مكنه من استئناس الكائن اليمني وإدخاله بيت الطاعة في طقوس بدت كأنها (كاثوليكية) ، فما هي أهم معالم الحكمة (الصالحية)؟
أعرف أن الجماهير مشغولة بمتابعة الثورات ، ولهذا سأُجمِل هذه المعالم على النحو الآتي:
التنفيس وديكور (الديمقراطية):
من المعلوم أن الثورات تمثل انفجارات اجتماعية عندما يزداد الضغط ، والنظام الصالحي يمارس كل أنواع الظلم والكبت والقسر ، لكنه يتفنن في التنفيس كلما قاربت (البالونة) الاجتماعية على الانفجار ، ولأنه سبحانه وتعالى يضع سره في أضعف خلقه ، فقد نجح هذا النظام فيما لم ينجح فيه مبارك ، إذ لبلادته قام في الانتخابات الأخيرة بتأميمها كلها ، ولم يترك مساحة للتنفيس ، كما يفعل نظام صنعاء ، الذي يترك ما بين 10 ـ 20% مهما كانت أغلبيته ساحقة ، ومهما كان حصانه جموحاً ، وإن كان هذه المرة قد أوشك حصانه أن يقلد بغلة مبارك ، لكنه تراجع بعدما رأى مصيرها الكارثي ، لكن بعض بطانة الرئيس مازالت تقول له: الحصان اليمني غير البغلة المصرية! بحجة أصالة الحصان العربي ، ولا يعرف هؤلاء أن الخطورة تكمن هنا ، وأن الحَذِر يؤتى من مأمنه!
وبجانب الانتخابات الديكورية ، يتجمل النظام اليمني بهامش من الحرية القولية في الصحف وقناة سهيل وفي بعض المساجد والمنتديات العامة وعبر المقايل التي يُنفس فيها اليمنيون يومياً عن أنفسهم ، ولهذا لا يصل الضغط إلى منتهاه حيث يكمن صاعق التفجير!.
الاستنساخ وإنتاج مؤسسات الضِّرار:
ومع كل هذا التنفيس ، فإن النظام شديد التوجس من كل شيء كيف لا وهو يتربع على رؤوس الثعابين ، ولذلك احتاط لنفسه ، وأوجد لذاته منظومة ديمقراطية تمثل صدى لصوته ، وهي تشبه النظر في المرآة ، زاعماً وجود صورتين ، ولهذا أوجد أحزاباً ونقابات وجمعيات ، لا هَمَّ لها إلا تخريب ما تفعله الأحزاب والنقابات والجمعيات ، بل وخلق لنفسه منافساً في انتخابات الرئاسة السابقة ، ولأول مرة في تاريخ البشر ، ظهر مرشح رئاسي يزعم الانتساب للمعارضة ، في حملات انتخابية تُسفِّه مرشح المعارضة الحقيقي وتمجِّد مرشح السلطة الذي أَنَّ منه كرسي الرئاسة ، (واعذروني فأنا أشعر برغبة في التقيؤ كلما تذكرت تلك المهزلة)!!.
ووصلت الغيرة بالنظام والرغبة في الاستحواذ على كل شيء إلى المؤسسات الاجتماعية والدينية ، فعندما أبْلَت جمعية الإصلاح بلاءً حسناً ، تبن النظام (الجمعية الشعبية) كجمعية ضرار ، ولما أثقلت هذه الجمعية (الخيرية!!) أركمةُ الفساد ، انتقلت السلطة إلى تأسيس جمعية (الصالح) ، على وزن جمعية السعيد ، وصار آل السعيد ينافَسون مثل غيرهم في تجارتهم وأنشطتهم ، ومقابل جائزة السعيد: جائزة الصالح ، ومسجد السعيد: مسجد الصالح ، وهكذا دواليك!.
تجميل القبائح (بالمكياج الإسلامي):
ما فتىء النظام في اليمن ، يمارس صوراً من القبائح الكبرى التي تدخل بالمقياس إلاسلامي ضمن دائرة الكبائر ، لكنه شديد الدأب في تجميل قبائحه بمكياج مصنوع من مظاهر وأدبيات تستفز العواطف الإسلامية الجياشة لهذا الشعب المحافظ ، ومن ذلك إيجاد دستور وأدبيات وقوانين إسلامية حتى لو وطأتها الممارسات العملية بأقدامها .
وبنفس الدأب أجاد النظام تجميل وجهه القميء عبر التحالف مع جماعات إسلامية ، واستخدامها ككروت لإعادة التغطية لمؤسساتها المنتهية الصلاحية ، وبدأ الأمر بالتحالف مع الإخوان المسلمين عندما كان النظام أقل قبحاً وأكثر براءة ، وانتقل إلى الشيعة والتيار الجهادي (أفغان اليمن) ، ووصل القطار الآن إلى محطتي الصوفية والسلفية ، كعادة النظام في الرقص على رؤوس الثعابين!.
وكنوع من المساحيق لتجميل ذات الوجه القبيح ، حرص النظام على الظهور بجانب علماء الإسلام الكبار ودعاته التقاة ، مثل الزنداني وعمر أحمد سيف وناصر الشيباني على المستوى المحلي ، والقرضاوي وعائض القرني وعمرو خالد على المستوى الخارجي ، وهذ ما لم يفعله قط حسني مبارك ، لأنه ظن أنه أكبر من أن يحتاج لدغدغة العواطف الدينية للمصريين!.
وفي ذات السياق أظهر النظام اليمني تعاطفاً مع القضايا الإسلامية في العالم ولاسيما القضية الفلسطينية ، حيث ظل يتشدق بالشعارات ، ووصل الأمر إلى الطلب من دول الطوق أن تسمح له بالحرب على اليهود ، مما اعتبره مبارك ذات يوم: "حركة نصف كم" كتمثيلية الاستقالة ، لكنه لم يدر أن (نصف الكم) ينفع في (اليوم الأسود)!!.
ونجح النظام في دغدغة العواطف الشعبية ، بالحديث الدائم عن الخصوصيات اليمنية ، والتحذير من الأجانب ، مع أنه فتح البحار والأجواء أمام الأمريكيين ، وعرف من أين يُؤكل الكتف اليمني ، حيث دأب على اللقاءات بالناس والنزول إلى المحافظات ، وعلى إرسال التهاني والتعازي إلى كثير من المشايخ والعلماء والوجهاء! وهو كعادته في هذه المحطات يقول كل شيء ولا يفعل أي شيء ، لتكتشف الجماهير بعد ثلاثة عقود عجاف أن الجعجعة لم تصنع طحيناً ، وأن الإناء الفارغ أكثر جلبة من الإناء الممتلئ!.
القتل على طريقة (المأمون):
باستثناء ما فعله الرئيس صالح ضد بعض الناصريين في 1978م، وضد قليل من الاشتراكيين في الثمانينات ، فلم يُعرف عنه أنه أقام المشانق لخصومه ومنافسيه ، بغظ النظر عما يقال عن مسؤوليته المباشرة أو غير المباشرة في مقتل الآلاف من اليمنيين في حرب الجنوب سنة 1994م وحروب صعدة الستة .
صحيح أن الرئيس لم يشتهر عنه قتل معارضيه على طريقة الحجاج بن يوسف الثقفي ، إلا أنه صار أكثر مضاءً في القتل على طريقة الخليفة المأمون الذي أُثر عنه قوله رحمه الله: "لقد بَلَوْتُ رعيتي بالسيف والكرم فكان الكرم أنجع فيها" .
ووفق هذا المنهج عمد الرئيس صالح إلى الخزينة العامة فأفرغها في جيوب كثير من الساسة والمشائخ والوجهاء والإعلاميين والعسكريين والأكاديميين ، وكل من حاول رفع صوته ضد النظام، مع ملاحظته بروز الذاتية أو وضوح المطامح والمطامع ، وتحول المثل اليمني: "إطعم الفم تستحي العين" إلى مَعْلَمٍ من معالم السياسة الصالحية التي ساهمت في إطالة عمره ، واستمراره سنوات طويلة مع انتهاء فترة الصلاحية المفترضة!.
بهذه الطريقة نجح نظام صالح في اختراق جماعات ، وتمزيق أحزاب ، وصناعة التجنحات ، واستلاب الكوادر ، واستراق الشخصيات الفاعلة في البلاد ، سواء في نظامها السياسي أو الاجتماعي أو منظومتها الاقتصادية .
ولهذا صار المؤتمر الشعبي العام مكتظاً بالسياسيين المجلوبين من اليسار واليمين والوسط ، من الإسلاميين والقوميين والاشتراكيين ، من الزيدية والشافعية والوهابية ، من الإخوان والسلفية والصوفية ، من السنة والشيعة ، من المدنيين والعسكريين والقضاة ، ولكنه نسي أو تناسى أو لم يعلم أن التضخم على هذه الصورة حالة مرضية وليست صحِّية ، وأن الحيوانات التي انقرضت هي الحيونات الكبيرة وعلى رأسها الديناصورات!.
ومن يتطلع إلى قيادة المؤتمر كنموذج ، سواء على مستوى اللجنة العامة أو اللجنة الدائمة ، سيجد أن الأغلبية ينحدرون من خلفيات سياسية اشتراكية أو بعثية أو ناصرية أو إخوانية أو ملكية .
هذا السلاح الفتاك الذي لم يهتد إليه حسني مبارك استطاع أن يجلب إلى المؤتمر أكثر المتطرفين في نقد النظام وفي مهاجمة الرئيس شخصياً ، وسأضرب مثلين عُرفا بالحدة في نقد النظام صارا اليوم تحت أقدامه ، وهما أحمد الصوفي الذي صار بوقاً مبحوحاً للنظام تعدى وسائل الإعلام المحلية إلى القنوات الفضائية ، وليس أسوأ منه إلا أحمد الحبيشي الذي كان الناطق الرسمي باسم حركة (موج) الانفصالية ورئيس تحرير صحيفتها ، ليصير رئيساً لتحرير مؤسسة (14 أكتوبر) الرسمية ، يهاجم من خلالها المؤتمريين القليلين الشرفاء الذين لم يتلوثوا بالتطرف والفساد ولم يرتموا في أحضان الأجانب!
وبسبب هذه (الاستراتيجية) امتلأ المؤتمر الشعبي العام بالغرباء على مبادئه وميثاقه الوطني ، حتى يمكن القول إن أروقة المؤتمر فيها كل شيء إلا المؤتمريين!!.
(استراتيجية) التمزيق والحؤول دون تكوُّن الكتلة الحرجة للتغيير:
كنت أسمع أن الاستعمار يقوم على سياسة (فرِّق تسد) ولكنني رأيت كيف تفوق الاستبداد في صناعة التمزيق ، ومنع القوى الحية من التقارب لتكوين الكتلة الحرجة التي يمكن أن تقوم بالتغيير وتتحمل تكاليفه الباهضة وأثمانه العالية .
لقد عمد نظام الرئيس صالح إلى الاستماتة في تمزيق الوطن ومنع بروز الحس الجمعي ، وإبقاء الوطن قارة شاسعة سميتها يوماً (القارة السابعة) ، حيث يسود الحس الانفصالي ، فالأحزاب تتجنح ، والانقلابات تنشط وسط المؤسسات الاجتماعية ، حيث تحل قبائل محل قبائل ، ومشائخ محل مشائخ ، وعلماء مكان علماء ، وخطباء منابر خطباء ، الجميع يتمزق والكل يتشظى ، دون أن ينتبهوا منذ البداية لقنابل النظام!
وتشيع الجهوية والمناطقية ، من الجنوب إلى الشمال ، ومن الشرق إلى الغرب ، لتحل محل الحس اليمني الجمعي هويات بدوية وحضرية ، مدنية وقروية ، ساحلية وجبلية ، شافعية وزيدية ، سنية وشيعية ، هاشمية وقحطانية ، في ظل ثقافة تآكل لا تكامل!.
ووصل الأمر إلى نقل كل هذه العصبيات والدوائر الضيقة ، وهذه العلل ، إلى الجيش والمؤسسات الأمنية ، فمؤسسة الجيش مؤسسات ، والمؤسسة الأمنية مؤسسات وأجهزة ، حيث تتسيد روح التسابق والصراع ، ليتشظى الكل ولا تجتمع خيوط اللعبة إلا في يد شخص واحد حتى يشعر بالأمان!
وبهذا انشغلت مكونات الكتلة الحرجة ببعضها ، واستهلكت طاقاتها في صراعات داخلها ، ساعدت في إطالة عمر النظام وإطالة من ثم معاناة الشعب ، وبروز روح اليأس والقنوط ، وتسيّد روح السلبية واللامبالاة ، وتمرغ الشعور بالانتماء إلى هذا الوطن في الوحل ، حيث اختُزل الوطن في النظام ، وصارت البلاد (عِزبة) للحاكم يفعل بها ما يشاء ، فهو يمنح ويمنع ، بدون قانون ، لأنه هو القانون وهو الدولة ، والبقية ـ حتى في إطار النظام ـ مجرد موظفين ، وفي السنوات الأخيرة رفض أن يكونوا حتى موظفين ، حيث صرح للأستاذ باسندوة أنه يريد موطَّفين لا موظفين!!
ومهما يكن فإن لكل ظلم نهاية ، ولكل ليل نهار ، وسنن الله غالبة ، فإن عوامل عدة تظافرت على توسيع مساحات الوعي في هذا الشعب ، وإذا كان النظام ينظر إلى اليمنيين على أنهم ثعابين ، مع ملاحظة ـ من عندي ـ أن 60% من الثعابين غير سامة ، إلا أن تمادي النظام في فرعنته أحال بلسم هذا الشعب إلى سم زعاف ، ولا سيما أن الأفاعي التي أوجدها الساحر في جحور الجنوب وصعدة للدغ خصومه ، انقلبت عليه اليوم ، وعندما يريد الشعب أن يغير فلا عاصم يومئذ من أمر الله!!.
*أستاذ الفكر الإسلامي السياسي المشارك بجامعة تعز
-رئيس منتدى الفكر الإسلامي
في الجمعة 25 فبراير-شباط 2011 05:04:11 م