ما وراء إعفاء هلال من الإعمار وإعادته..ولماذا بدا صالح هبرة غاضبا في تصريحاته الأخيرة، وما هو المرهم النافع لجرح صعدة التاريخي

الخميس 11 سبتمبر-أيلول 2008 الساعة 03 صباحاً / مأرب برس - محمد العلائي، المصدر
عدد القراءات 4825

تتخذ الأحداث في اليمن، على الدوام، طابعاً زئبقياً مراوغاً. فالتصرفات السياسية غائمة تتعالى على الفهم، والتعبيرات مرتبكة وخالية من المنطق. إننا نعيش في حقل سياسي بدائي ومليء بالتعقيدات واللامعقول.

الآن، بعد مضي نحو 55 يوما على وقف إطلاق النار، نتساءل بحق: أين تقف صعدة حقاً؟.

تقول المعلومات أن الهدوء ما يزال سائداً في صعدة حالياً. أقول "هدوء" وليس "سلام"، لأن الأخيرة مفردة توحي بالاستمرارية، وزوال كل أسباب النزاع المسلح، وشروط تجدده. بينما الـ"هدوء" عملية إجرائية فقط، من شأنها السماح لجهود السلام بالنفاذ إلى الحيز المكاني للخلاف، والشروع، من ثم، في تطويقه وتسوية الحسابات بالسياسة عوضاً عن القوة. والتفاوض السياسي استمرار للحرب، لكن بوسائل أخرى، وليس نهاية لها بأي حال.

هذا على الصعيد الأمني بالطبع. أما على الصعيد السياسي، فإن بوادر توتر طفيفة بدأت تحوم في الأجواء على هيئة تصريحات ساخنة جداً. والأشياء تبدأ طفيفة عادة، أو على حد تعبير شاعر ألمانيا العظيم جوته: "الشيء الأصعب هو الذي يبدو للوهلة الأولى بالغ السهولة".

استمر التوتر طفيفا حتى الأحد. كان يتمثل في الآتي: أولاً، إعفاء العميد عبدالقادر هلال وزير الإدارة المحلية من مهامه في لجنة إعمار ما دمرته الحرب، وتعيين وزير الأشغال بدلا عنه، وما تبع هذا الإجراء من ارتدادات سلبية على الضفة الأخرى(الحوثيين). ثانياُ، تصريحات غاضبة بثها، مساء الخميس، موقع المنبر الإخباري، المقرب للحوثي، منسوبة للشيخ صالح هبرة، والأخير محسوب على فصيل الحمائم داخل جماعة الحوثيين، غير أن لهجته كانت شديدة بالنظر إلى أننا بصدد تهدئة.

طبعا هذه أسباب جديدة للتوتر وليست جذر له. ولسوف تضيف إلى التوتر القائم أصلا بسبب الحرب، والذي تعمل فرق وساطة ميدانية لإخماد جذوته.

الأسبوع الماضي تناقلت الصحافة خبر إقالة هلال من الإعمار. وقد لاح الخبر عاديا بالنسبة للبعض، لكنه كان نذير شؤم بالنسبة إلى لكثيرين، وعلى وجه الخصوص مقربين من الحوثي. وفي حين أن الحدث لم يأخذ حقه من الشرح والتفسير، فان حجم خيبة الأمل الذي أصاب الحوثيين عبر عنه احدهم بقوله:" إذا صح الخبر فهذه نكسة حقيقية لجهود السلام في صعدة ".

أن يقال شخص ما من منصبة، فهذا إجراء غير مثير للاهتمام. فلماذا، عندما يكون المسؤول هو هلال، يصير الإجراء نكسة؟ ما هي الرسالة التي التقطها الحوثيين ولم نفلح نحن في الوصول إليها؟

في الحقيقة لا نعرف، لكننا نستطيع أن نفترض. هناك عدة احتمالات. ثم إننا على استعداد لتصديق أي شيء، بما في ذلك ما فوق المنطق وما دونه. حتى إننا سنصدق، مثلا، لو قيل لنا إن إقالة هلال تؤهب لاندلاع حرب سادسة لتوفير الغطاء اللازم لتأجيل الانتخابات. على أن كلمة رشاد العليمي، نائب رئيس الوزراء لشؤون الأمن، الأحد، يمكن أن تعزز من هذا الاحتمال.

العليمي قال في لقاء موسع عقده في صعدة مع أعضاء لجنة إعادة الإعمار وقيادة المحافظة بتكليف من اللجنة الأمنية العليا:" جهود الإعمار في صعدة لن تتواصل إذا استمر الحوثي في التحصين والتوسع". وأضاف:"رغم التزام الجيش، الحوثي يسيطر على 60 ويستولي على مواقع جديدة".

وسنصدق لو قيل إن السبب مرده إلى شخصية هلال، التي يقال أنها تتسم بالنزاهة والجدية، لكن يراد لها أن تعمل على رأس فريق جشع ضمن خطة إعمار قيمتها 10 مليارات ريال. علاوة على إننا نستطيع تصديق المبررات التي ساقها الرجل في تصريحات لـ"نيوزيمن"، ومؤداها أن مهمة الإعمار لصيقة من حيث الاختصاص بوزارة الأشغال العامة.

وسنصدق، أيضا، تلك المبررات التي نسبها "نيوزيمن" لمصادر رسمية، ومضمونها:"الحاجة لنقل عمل لجنة الإعمار من المستوى السياسي والأمني إلى المستوى الفني، الذي هو من اختصاص وزارة الأشغال". ومسألة تحويل أزمة صعدة وآثارها إلى مشكلة فنية، تنم عن شيئين: إما غباء أو استغفال ومغالطة للآخرين، وكلاهما مشين وسيء. وهل كانت حرب صعدة يوما مسألة فنية؟

المهم، كنا(وما نزال) على استعداد كامل لتصديق كل شيء، وأي شيء.

في الحقيقة، كنا على استعداد لنعمل ما بوسعنا كي نفهم، لولا التحول المفاجئ جدا في مسار الأحداث: لقد عاد هلال، يوم الأحد، إلى صعدة مجدداً، بعيد اجتماع اللجنة الأمنية العليا برئاسة صالح، وإصرارها على بقاءه ضمن لجنة الإعمار وليس على رأسها. وقد كان. ما أسرع ما تتبدل الأحوال لدينا، وما أبطأها.

إذاً، الأمر بات يعني الآن أن هلال لم يُقال، بقدر ما انه أقال نفسه بنفسه. أي إن "التعقيدات الميدانية"، التي تحدث عنها الرجل، مطلع أغسطس، أصبحت من الصعوبة إلى درجة لا يمكن القفز عليها، فقرر التنحي. أو أنه أعرب عن تذمره فأثار غضب الرئيس فأقاله، ثم تراجع بعد أن لاحظ الأثر السلبي الذي تركه القرار. وهكذا، احتمالات لا أول لها ولا آخر، بيد أننا لا نستطيع تحديد أيها الأرجح والأكثر دقة.

هل أتمادى وأتحدث عن احتمالية وجود عراقيل من صنع اللجنة الأمنية العليا. ربما علي ذلك. لكن من أين استقيت هذه الفكرة؟ ببساطة من التمنيات التي أزجاها هلال للكرشمي بأن يحظى الأخير بعون اللجنة الأمنية، بحسب تصريحاته. وعندما يتمنى السلف للخلف العون من جهة ما، فإنه يريد أن يقول شيئاً آخر: إنني أتنحى الآن بسببها. (لا تنسوا أنه أعيد إلى عمله).

هذا المستجد الأول، وقد مر بتحولات قللت من حدته. بقي التوقف ملياً عند تصريحات هبرة(زعيم الحمائم في تنظيم الحوثي).

وإذا ما اخترنا الاختصار، فقد تضمنت الآتي: أولاً، نفى وجود تحالف مع السلطة، متهماً الشائعات بهذا الشأن بأنها تسعى للتشكيك في مصداقية العلاقة التي باتت متينة مع المشترك. ثانياً، قال إن قرار وقف الحرب حكيم وشجاع، غير انه استدرك ليقول أن ثمة ما هو أشجع منه:" قرار أولئك الفتية الذين اختاروا الوقوف في رؤوس التلال وبطون الأودية أمام أعتى قوة لمدة 70 يوما، مما غير موازين الأمور".

ثالثاً، وهو الأكثر خطورة، قوله إن قيام السلطات بتجنيد أبناء صعدة ليس إلا محاولة لجر المحافظة إلى حرب أهلية باعتبار ذلك إحدى رهاناتها لإنهاء قضية صعدة بعد فشلها ميدانيا. رابعاً، اعتباره أعمال لجان حصر الأضرار التفافا على اتفاقية الدوحة وهروب منه،"وهو سيناريو يعيد نفسه عند نهاية كل حرب أو الدخول في أي انتخابات قادمة، إذ الواقع يشهد بعكس ما يروج له الإعلام تماما". وانتقد المماطلة في إطلاق سراح المعتقلين على ذمة الحرب. ثم تساءل هبرة:"لو لم تكن هي من رفضته(الاتفاق) لطالبتنا به الآن لاعتباره ذرائع للحرب عندها، وإلا لماذا الحرب الخامسة إن لم يتم الرجوع إليه؟".

الملفت أن كلام هبرة جاء متزامنا مع أنباء إقالة هلال. لو صح أن هذا الكلام صدر عن الرجل اللبق والهادئ، مضافاً إليه تصريحات العليمي ذات النبرة الخشنة، فإن الوحش يوشك أن يستيقظ . والوحش هنا هي الحرب، كيلا نذهب بعيداً.

ولمن يريد أن يعرف أين تضع صعدة أقدامها الآن، فليتأمل لبعض الوقت المستجدات الدراماتيكية المخيفة والمثيرة للقلق.

لم يعد التوتر طفيفاً. ومن أجل إثبات ذلك، انظروا إلى البند الثالث من تصريحات هبرة أعلاه. إنه يقول الكثير عن حالة اللاثقة التي تشحن الأجواء بالتوترات.

يعتقد الحوثيين أن السلطة فشلت ميدانيا، وعليه فهي لن تتعايش مع فكرة كونها مهزومة وستلجأ للانتقام بطرق ذكية لكنها فتاكة (تنتشر عبارة منسوبة للرئيس تقول:" سأقاتل الحوثيين بطريقة مختلفة لن استخدم فيها الجيش "). وتعتقد السلطة أن الحوثيين، الخارجين، من القتال، بوهم النصر، لن يتورعوا في طلب المزيد، فضلا عن تموقعهم التفاوضي العالي، وبالتالي لا مناص من كسر شوكتهم وعدم الإفراط في إحناء الرأس.

وطالما كانت الحالة النفسية للفريقين على هذا النحو من سوء النية، فإن مجرى الأحداث لن يكون باعثاً على التفاؤل، رغم أننا لا نكف عن التفاؤل حتى هذه اللحظة.

الأزمة في صعدة مركبة وعويصة. وبالتالي فالحلول لابد أن تكون مركبة هي الأخرى. في أزمة صعدة يختلط السياسي بالمذهبي بالتاريخي بالإنساني بالقبلي. وأي جهد يجب أن يسير في هذه المسارات كلها خطوة خطوة.

هناك خطوات اسعافية تساعد حسن النوايا على أن تبدو حقيقية. منها إطلاق المعتقلين، ومنها إنهاء التمترس وحالة الاستنفار المستفزة التي تثيرها تحركات الحوثي، ومنها البدء في حل قضية النازحين وصرف التعويضات، ومنها الإسراع في معالجة الشروخ الاجتماعية التي خلفتها الحرب. وترك ما هو سياسي للرئيس وعبد الملك الحوثي للبت فيه. أشياء سهلة وغير مكلفة.

صعدة جرح تاريخي أيضاً. وما هو تاريخي لا يعالج بمراهم بسيطة. إنه بحاجة إلى صبر طويل وأناة. فالجروح التاريخية انواع، منها ما يبرأ، ومنها ما يستحيل برأه ويتم التعامل معه كوضع استثنائي في التمثيل والتشريع والتعليم.

وبحسب فيتز روى ماكلين( دبلوماسي ورحالة انجليزي) في توصيفه للصراع العرقي والإثني في البلقان، دول يوجوسلافيا سابقا، فإن:"بعض الجراح التاريخية تشفى ويتبقى منها ندوب تشير إلى آثار قطع في الجلد. وبعض الجراح تلتئم فقط، ولكن أوجاعها تظل تحت السطح. وبعض الجروح ينزف ويواصل النزيف رغم السنين"، قال هذا في حديث شخصي لـ محمد حسنين هيكل نهاية التسعينات، ونشره الأخير في كتابه "كلام في السياسة".

اكثر خبر قراءة أخبار اليمن