أضواءٌ فقهيةٌ وفكريةٌ على مذكرات من أبراج الخليج إلى قصور مأرب 1-4
بقلم/ د. محمد معافى المهدلي
نشر منذ: سنتين و 4 أسابيع
السبت 29 أكتوبر-تشرين الأول 2022 05:07 م

بعد استعراضنا لمذكّرات "من أبراج الخليج إلى قصور مأرب(1-3)" والتي تولّى موقع مأرب برس مشكورًا نشرها، والتي طوّف بنا الكاتبُ من خلالها حول أنحاءٍ وأجزاءٍ شتى من بلاد الجزيرة والخليج، بدءًا من عُمان الإنسان والحضارة والطبيعة الساحرة، وانتهاءً بمأرب الحضارة والتاريخ والصمود.

يبدو أنّ صاحب المذكّرات مرّ مرورَ الكرام على بعض المعضلات الفقهية والفكرية دون تدقيق ودراسة فقهية راشدة، ربما لكون هذه المذكرات تقتضي السرد المجرّد، وربما لكون هذه المذكّرات تحمل في طيّاتها وبين أسطرها الأجوبة الفقهية الشافية والكافية، على كل مسائل الباب، بلا حاجة للتفصيل والبيان.

بيد أنّ الكاتبَ بعد نشر هذه المذكرات، رأى أنّ ثمة قضايا فقهية وفكرية شائكة بحاجة إلى مزيد مذاكرةٍ ومدارسةٍ حتى ينجلي عنها الغبار والضبابية، سيما وأنّ هذه القضايا هي محل عراكٍ شديد يصل أحيانا - بل غالبًا- حدّ أنهارٍ من الدماء والأشلاء، لذا دعونا نقف على بعض تلك القضايا الفقهية الشائكة لإشباعها بالنظر والقراءة والتدبر والتمحيص والمعالجة، أوجز عناوينها على النحو الآتي:

1. حكم دعوات الإنفصال التي تجتاح أنحاء بلاد اليمن شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا، خصوصًا، وبعض البلاد العربية والإسلامية، عمومًا، وهل يجوز شرعًا وقانونًا الاستجابة لمطالب دعوات الانفصال دفعًا للضرر أو الظلم أو الفساد، أو حقنًا للدماء، وتحقيقًا للمصلحة ودفعًا للمفسدة الظاهرة الجليّة؟!.

2. المذهب الإباظي المعاصر هل هو أقرب إلى محيطه السُّني، أو هو أقرب إلى عمقه التاريخي، أم أننا في عالم ذابت فيه الدِّينيات فضلًا عن المذهبيات؟!.

3. ما حكم الأغاني والأناشيد الوطنية المصاحبة لآلات الموسيقى؟.

4. هل تضمن الدولة شرعًا تلفيات الأموال والأرواح إنْ هي تسبّبت في تلفها وهدرها، من خلال سوء الخدمات التي تقدمها للمواطنين، كالمشافي والطرقات وانهدام الجسور وفيضان السدود وحوادث الطرقات بسبب الحفريات والمطبات..الخ، ونحوها؟!.

5. في طوابير البنزين الطويلة المنتشرة في أنحاء العالم الإسلامي هل يجوز للحاجة أو الضرورة أنْ يتقدم شخصٌ مّا على كل من في الطابور، للضرورة؟!.

فإلى المسألة الأولى، وهي: حكم دعوات الانفصال التي تجتاح ربوع العالم الإسلامي.

أولًا: التعريف بالانفصال لغةً واصطلاحًا: المراد بالانفصال لغةً مأخوذٌ من فَصَل الشيء إذا قسّمه وفرّقه وجعله أجزاءً وفصولًا مستقلة، (أنظر القاموس المحيط : ص 1185)، ومنه قولهم الفصلُ بين السلطات، أي أنّ كل سلطة مستقلةٌ عن أختها. و بقراءات قواميس اللغة نجد أنّ كل معاني الإنفصال تدور على معاني الافتراق والتميّز وانفكاك الشيء عن الشيء، إذا انفصل عنه وفارقه.(أنظر تاج العروس: 26/297، 27/302). والإنفصال اصطلاحًا هو: خروج جزءٍ أو إقليم عن سيادة الدولة الأصلية، بقصد تأسيس دولةٍ جديدة (أنظر مجلة المحقق للعلوم القانونية العدد الثاني السنة الخامسة).

ثانيًا: موقف القوانين الدولية من حركات الانفصال: الحقيقةُ أنّ اﻟﻛﺛﯾر ﻣن دﺳﺎﺗﯾر اﻟدول اﻟﻔﯾدراﻟﯾﺔ ﺗﺿﻊ ﻧﺻوﺻًﺎ ﺗﻣﻧﻊ ﺻراﺣﺔ أو ﺿﻣﻧًﺎ اﻟوﺣدات اﻟﻣﻛوﻧﺔ ﻟﻠدوﻟﺔ ﻣن اﻻﻧﻔﺻﺎل، وﺗؤﻛد ﻋﻠﻰ اﻟوﺣدة اﻟداﺧﻠﯾﺔ ﻟﻠﺑﻼد وﺗﻛﻔل اﻟﺣﻔﺎظ ﻋﻠﻰ ﺳﻼﻣﺔ اﻻﺗﺣﺎد واﺳﺗﻘﻼﻟﻪ وﺳﯾﺎدﺗﻪ، وﺗﻌدّ دﺳﺎﺗﯾر اﻟوﻻﯾﺎت اﻟﻣﺗﺣدة اﻷﻣرﯾﻛﯾﺔ واﻟﻣﻛﺳﯾك ، وﻧﯾﺟﯾرﯾﺎ واﻟﻬﻧد وأﺳﺑﺎﻧﯾﺎ ﻣن اﻷﻣﺛﻠﺔ ﻋﻠﻰ ذﻟك. وﻟم ﺗﺗﻧﺎول ﺑﻌض اﻟدﺳﺎﺗﯾر اﻻﺗﺣﺎدﯾﺔ ﻣﺳأﻟﺔ الإﻧﻔﺻﺎل ﺑﺄيّ ﺷﻛلٍ ﻣن الأﺷﻛﺎل ﻣﺛل: دﺳﺎﺗﯾر أﺳﺗراﻟﯾﺎ وأﻟﻣﺎﻧﯾﺎ وﺳوﯾﺳرا، ، في ﺣﯾن ﻧﺟد ﻧﻣﺎذج ﻓرﯾدة ﻣن اﻟدﺳﺎﺗﯾر اﻻﺗﺣﺎدﯾﺔ أﻋطت ﺣﻘًﺎ ﻟﻠوﻻﯾﺎت ﺑﺎﻻﻧﻔﺻﺎل ﻣﺛل دﺳﺗور اﻻﺗﺣﺎد اﻟﺳوﻓﯾﺗﻲ لسنة ١٩٧٧م، في إطار البيروسترويكا التي أسسها الزعيم الراحل غورباتشوف. وفي عالمنا العربي والإسلامي تنص كل الدساتير على الاستقلال والسيادة.

أما ﻣوﻗف اﻟﻘﺎﻧون اﻟدوﻟﻲ اﻟﻌﺎم ﻣن اﻻﻧﻔﺻﺎل ﻓإﻧﻪ ﺑﺷﻛل ﻋﺎم ﻻ ﯾﺷﺟﻊ ﻋﻠﯾﻪ، ﻷﻧﻪ ﯾﺗﻌﺎرض ﻣﻊ وﺣدة وﺳﻼﻣﺔ أراضي اﻟدوﻟﺔ.(أنظر مجلة المحقق للعلوم القانونية العدد الثاني السنة الخامسة، بتصرف).

ومن المهم جدًا في هذا السياق أنْ أشير إلى أنّ الأمم المتحدة لا تعترف بالأقاليم الانفصالية، حتى وإن اعترفت بها بعض الدول، فمثلاً إقليم الصحراء الغربية الكبرى، أو جبهة البوليساريو، رغم أنّ الإقليم أعْلن الإنفصال عن المغرب منذ عام ١٩٧٥م، وتعترف بالإقليم 32 دولة، إلا أنّ الأمم المتحدة لم تعترف به، وكذا جمهورية أبخازيا ليست مستقلة عن جورجيا، رغم اعتراف بعض الدول بالجمهورية وعلى رأسها روسيا، وكذا جمهورية شمال قبرص لا تعترف بها الأمم المتحدة، رغم اعتراف بعض الدول بها، على رأسها تركيا، وغيرها من الأمثلة.

وعليه تلحظ مما سبق أنّ الأمم المتحدة لا تعترف بالكيانات الإنفصالية، لأنّها كيانات طائفية تدمر الوطن الأصلي، إلا أنّ القانون الدولي والأمم المتحدة لا يجرّمان الدول التي تعترف بهذه الأقاليم ولا تجرّم التعامل مع هذه الأقاليم أو الدول الإنفصالية. ومن الأمثلة الصارخة والمؤكدة لما أقول دولة فلسطين التي لا تعترف بها الأمم المتحدة رغم اتفاق أوسلو الموقّع بين دولة الكيان الصهيوني وفلسطين المحتلة، عام 1988م، إلا أنّ الأمم المتحدة حتى الساعة لا تعترف بفلسطين دولة رغم ذلك.

والأمثلة يطول سردها. وقصارى دعاوى الإنفصاليين تتركز في دعوى الظلم او الاضطهاد، وهو وإن كانت في بعض الأحيان أو غالبا ما تكون صحيحة، الا أن الحل ليس الانفصال.

ومن الجدير بالذكر في هذا السياق القول بأنّ عدد سكان مسلمي الهند، كمثال قرابة ال 200 مليون مسلم، إلا أن كاتب هذه الأسطر لا يعلم أحدًا من علماء الأمة أو من كتّابها أو من عامتها أو خاصتها، دعى إلى انفصال مسلمي الهند، رغم ما يحيق بهم من قتل وتشريد وتدمير للممتلكات، وخراب للديار، ورغم كون دولة الهند هندوسية كافرة، إلا أنه لا قائل بانفصال مسلمي الهند عن الدولة المركزية، لأنها دعوة مجنونة، فلازمها حرق المسلمين وتدميرهم واجتثاثهم واستئصالهم، من بلاد الهند، لو رفع المسلمون أو بعضهم شعار المطالبة بالانفصال، وكذلك نفس الصورة في بعض الأقاليم المسلمة في الصين وروسيا وغيرها، وقصارى ما نسمعه أن تمنح هذه الأقاليم حكمًا ذاتيًا، في إطار دولة اتحادية فيدرالية أو كونفدرالية، فيما بعض الكتّاب العِرّيبة لا يرى حرجًا أن يدعو ليلَ نهار إلى انفصال الشمال عن الجنوب اليمني، وانفصال الشرق الحضرمي عن الغرب التهامي، والعكس، بدعوى ظلم الدولة وفسادها، والسبب لا يخفى على حليم!!!.

ثالثًا : حكم دعوات الإنفصال شرعًا: الشريعة الإسلامية تعدّ الأكثر حزمًا وحسمًا – إن لم نقل انفردت- في رفض الانفصال عن كيان الدولة الأصلية، وتعتبره خروجًا على ولي الأمر، وتعتبره فتنةً يجب على الإمام إخمادها والقضاء عليها، بحكمة وبصيرة، وليس بالسيف، إلا في الآخر، وآخر الدواء الكي، كما ذهب إليه جمعٌ من شراح الحديث الصحيح الذي خرجه مسلم: « إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخَِر منهما ».

قال العلامة النووي في شرحه : "فيه : أنَّه لا يجوز نصبُ خليفتين". شرح النووي على مسلم 12/107. وقال العلامة الخطابي : "يريد بذلك أن يخلع وتلغى بيعته حتى يكون في عِداد من قُتل وبَطل والله أعلم . (غريب الحديث للخطابي : 2/ 129).

وقال القاضي عياض : "من أراد أن يفرّق أمر الأمة فاقتلوه قيل: معناه اخلعوه وأميتوا ذكره وقيل: هو على وجهه كما قال في الحديث الآخر (فاضربوا عنقه واضربوه بالسيف) ولعلّ هذا إذا ناصب الجماعة ولم يُجب للخلع". (مشارق الأنوار على صحاح الآثار : 2/171).

وقال العلامة بن الجوزي : "إذا استقر أمر الخليفة وانعقد الإجماع عليه فبويع لآخر بنوع تأويل كان باغيًا وكان أنصارهُ بغاةً يقاتَلون قتال البغاة وقوله: (فاقتلوا الآخر منهما) ليس المراد به أن يقدم فيقتل وإنما المراد قاتلوه فإن آل الأمر إلى قتله جاز" كشف المشكل من حديث الصحيحين : 1/ 795. وأخرج أبو نعيم في الحلية عن أبى سعيد بن المسيّب رحمه الله لما دعي إلى البيعة للوليد وسليمان ابني عبد الملك بن مروان ، فقال : ( لا أبايع اثنين ما اختلف الليل والنهار ) ، قال : فقيل : ادخل من الباب واخرج من الباب الآخر ، فقال : (لا والله لا يقتدي بي أحد من الناس)، فجُلِد وأْلبِس المسوح. (أنظر إحياء علوم الدين بتخريج العراقي : 3/3) . وهذا الحديث وأمثاله – أعني حديث إذا بويع لخليفتين- عدّه بعض العلماء كابن الجوزي من مشكل الآثار، ولا يمكن العمل بظاهره في عصرنا، مع اختلاف النوازل والأحوال، فعدد الأمراء في العالم الإسلامي يزيدُ عن نيف وخمسين، لكل دولةٍ أميرٌ وإمام، وقد اضطر العلماء المعاصرون للفتيا بجواز هذه الصورة من التشرذم والتمزق، كأمرٍ واقع لا يمكن الفكاك منه إلى غيره، إلا بدماء وفتنٍ لها أول وليس لها آخر، كأخف الضررين، وصارت التعددية في الحكام والأمراء في البلدان والإمارات من الأمور الأصعب تجاوزها، في وضع الأمة الراهن، كحالة استثنائية، أما الأصل فهو وحدة الأمة كلها من مشرقها إلى مغربها على إمام واحد، يسوسها بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى : (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) ، الأنبياء :92.

والمراد بالأمة الواحدة في الآية كما ذكره علماء التفسير كالقرطبي والطبري وبن كثير والبغوي، وغيرهم أي دينًا واحدًا وملةً واحدة، متفقون عليها، ولا شك أنّ وحدة المعبود تلتزم وحدة العابدين، كما فسرت ذلك النصوص المتواترة كتابًا وسنة. رابعًا: دعوات الإنفصال في اليمن وموقف الشرع والقانون والواقع منها.

أولُ من رفع شعار الانفصال في اليمن هو المجلس الانتقالي الجنوبي، وتتابعت الدعوات، حتى صحراء حضرموت بدأ يلوّح بورقة الانفصال، فثمة تاريخ أسود عاشته حضرموت إبان حكم عسكر يافع والضالع، ولا يستبعد أن يَرفع إقليم تهامة شعار الإنفصال، سيما وقد بدأ البعض بالسعي لإنشاء قناة فضائية تهامية، تمهيدًا لأمر هذه الدعوة، وأما صنعاء و المهرة وسوقطرة وصعدة، فأمرها ليس بخاف على ذي عينين.

وإزاء هذا الوضع المتفجر بدعوات الانفصال، في اليمن، وانتشار دعوات الانفصال في سوريا وشمال السودان، والعراق وتركيا، وثمة دعوات في بلدان أخرى، هامدة خامدة، توشك أن تستيقظ، فهل يمكن التعاطي مع هذه الدعوات، رسميًا وشعبيًا، ومنحها استقلالًا تامًا عن الدولة المركزية، وما مستقبل هذه الدعوات، في ظل القوانين الدولية وقرارات الأمم المتحدة، ودساتير هذه الدول وتشريعاتها، وهل ثمة مخارج فقهية نجدها في تراثنا الفقهي والتشريعي.

هذا ما سأحاول تناوله جاهدًا بعون الله، في الحلقة القادمة بمشيئة الله، والله من وراء القصد.