البردوني يرصد نهاية الطاغية
بقلم/ د. عبد الحميد الحسامي
نشر منذ: 13 سنة و 5 أشهر و 21 يوماً
السبت 04 يونيو-حزيران 2011 04:53 م

البردوني يرصد مشهد نهاية الطاغية في قصيدته مأساة حارس الملك بقلم د عبد الحميد الحسامي هذه القصيدة من القصائد الشهيرة التي تشكل نبوءة شعرية يرصد فيها الشاعر مشهد سقوط الطاغية ويدير حوارًا بينه وبين حارسه ويبدأ الحوار من قبل الحارس فهو أسرع في البحث عن النجاة لحظة الفزع والحسم، يقول:

سيدي : هذي الروابي المنتنه لم تعد كالأمس ، كسلى مذعنه

(نقم) يهجس ، يعلي رأسه (صبر) يهذي ، يحدّ الألسنه

(يسلح) يومي ، يرى ميسرة يرتئي (عيبان) ، يرنو ميمنه لذّرى (بعدان) ألفا مقلة رفعت ، أنفا كأعلى مئذنه

إن الحارس هنا يخيل له أن الجبال غيرت طبيعتها هاهي لم تعد كالأمس كسلى لا تجيد سوى الإذعان عجبا لقد ثارت نقم وصبر ويسلح وعيبان وبعدان ... كل الجبال غدت ثائرة تحد الألسنة تريد أن تنقض على الطغيان ..

وبعد هذا النداء المستغيث والتحذير من حارس الملك الذي يبدو عليه الخوف والوجل يصدر الملك الطاغية أمره قائلا :

أقتلوهم ، واسجنوا آباءهم واقتلوهم ، بعد تكبيل سنه ويجيبه الحارس كالعادة :أمركم ، ثم يستدرك ، لكن ...فيباغته الطاغية دون أن يجعله يتم استدراكه فيقول ظانا أن( لكن ) من طراز الجبال السابقة أمركم لكن ! ولكن مثلهم سيّدي : هذي أسامي أمكنه فيجيبه الحارس بخطاب التبعية : سيدي هذي أسامي أمكنة .لكن بلادة الطاغية تجعله لا يدرك ذلك :

هم شياطين ، أنا أعرفهم حين أسطو ، يدّعون المسكنه

(صبر) وغد ، أنا رقيته كان خبّازا ، أحيله معجنه

(نقم) كان حصانا لأبي إطحنوه علفا للأحصنه اقتلوا (يسلح) ألفي مرة اسحبوا (عيبان) حتى (موسنه) إقلعوا (بعدان) من أعراقه إنقلوا نصف (بكيل) (مقبنه) إنها الأوامر التي لا تعترف بمنطق ولا يعرفها منطق لغة الاستعلاء والانتفاخ الممزوج بالخوف من التحول ، لغة النفي تجسد طبيعة العلاقة بين الطاغية وشعبه أو تجسد رؤية الطاغية لشعبه ( فصبر وغد أنا رقيته كان خبازا أحله معجنة ) ونقم كان حصانا لأبي ، ولذا فكل لا بد أن يتلقى عقوبة تجانس طبيعته..

يجيب الحارس المرتبك

أمركم لكن ! ولكن إقطعوا رأسه ، دع عنك هذى اللكننه

ولم يتح له الملك إكمال استدراكه ، هو يقول أمركم لكن ويقاطعه الملك ولكن اقطعوا رأسه ، ويضيف دع عنك هذه اللكننة أي كثرة الاستدراك بلكن . ثم يضيف بلغة منتفخة ادعاء أحقيته في ملكه فلا أحد ينازعه لكنه لم يتم جملته وعنعنته حتى دوت طلقة عن أبي ، عن جده مملكتي … طلقة بنّت خيوط العنعنه

 

فيقول الحارس منبها إن هناك إطلاق نار ، فيرد عليه الملك : قل تسليات محزنة محاولا الدفاع النفسي في لحظة لا يجدي فيها التعلل سيدي : إطلاق نار ، ربّما ثورة ، قل تسليات محزنه لكت الطاغية في قرارة نفسه يعترف إنها الثورة التي طالما تخوفها .

هاجس في صدر مولانا : أتت من نخوّفت ، أكانت ممكنه :

آخر الهمس ، سكوت أو لظى أول العزف المدّوي دندنه

تمكن البردوني من تسجيل الارتعاشة النفسية للطاغية عبر هذا الحوار النفسي الداخلي الذي يكشف عن طبيعة الطغيان وهشاشته وهي الطبيعة التي تحدث عنها الشاعر الزبيري حين قال :

إن اللصوص وإن كانوا جبابرة لهم قلوب من الأطفال تنهزم .

فآخر الهمس سكوت أو لظى لكنه اللظى في هذه اللحظة ، وأوال العزف المدوي دندنة ، وهذا يذكرنا بقول الزبيري :

والحق يبدأ في آهات مكتئب وينتهي بزئير ملؤه نقم ثم يرصد البردوني المشهد مشهد الثورة المهرجان الجهات الأربع احمرّت ، عوت السماء الآن ، صارت مدخنه مهرجان دمويّ … ما الذي شبّ عينيه ؟ ومن ذا لوّنه ؟ الشياطين الذين انفلتوا عرفوا أدهى فنون الشيطنه ويحاول الطاغية أن يصدر أواخر أوامره للحارس سواء كان فردا أو جماعة أو معسكرا أو كتيبة فلسانها واحد ، امض يا جندي ومزقهم ، هنا تتردد في جنبات نفسه أحاديث الفرار والانضمام إلى الثوار وأنه خادم للأسياد منذ عرف مهنته ، عسى أن يقبلوا عذره فتبدو سيئاته حسنات ، لعل وعسى :

إمض يا جندي ومزقهم … نعم فرصة أخرج ، أرمي السلطنه أشعر الثوار أنّي منهموا سوف تبدو سيئاتي حسنه لست من عائلة الأسياد يا إخوتي ، إني (مثنّى محصنه) إنني سيف لمن يحملني خادم الأسياد ، كلّ الأزمنه

كنت في كفّي (أبي جهل ) كما كنت في تلك الأكفّ المؤمنه في فمي (أرجوزتا هند) كما في فمي (الأعراف) و(الممتحنه) كنت في كفّي (يزيد) شعلة في يد (السّيط) شظايا مثخنه وتمصعبت بكفّي (مصعب) و(لمروان) حذقت المرونه أعرف الموت(مقامات) هنا ها هنا أشدو المنايا (الميجنه) هكذا تتجلى لحظة النهاية للطغيان، وتتجلى وظيفة حراس الملك الطاغية ،و قد تجمع المتناقضات في آن واحد لأنها تحرس من كان ملكا تحرس الفرد وهذه الوظيفة هي وظيفة التبعية التي يحرص الطغيان على تثبيتها في كل زمان ومكان ، حين يكون الفرد هو كل شيء ....