مذكرات زائر إلى مدينة صنعاء 2-2
بقلم/ د. محمد معافى المهدلي
نشر منذ: 3 أشهر و 5 أيام
الجمعة 16 أغسطس-آب 2024 05:49 م
  

سبق لي الحديث إليكم في هذه المذكرات عن الطريق الوعرة إلى صنعاء، وما اكتنفها من مشاعر وأحوال، وسأتناول في هذه الحلقة ما يأتي :

 

١. أوضاع المساجد والمذاهب والتغيرات الفكرية الجارية مؤخرًا في العاصمة صنعاء.

 

٢. الأوضاع المعيشية لسكان العاصمة صنعاء.

 

٣. أهوالُ منفذ الوديعة.

 

٤. توصيات .

 

 حين وصولنا مدينة صنعاء مساءًا بتاريخ الأربعاء : ١٧/٧/٢٠٢٤، بعد رحلةٍ طويلةٍ وشاقةٍ، عبر خط البيضاء ذمار صنعاء، تذكرنا قول الله تعالى : ( وقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم..) فقد قضينا يومًا كاملًا إلى صنعاء في طريق عجيبة وغريبة من الحُفر والردميات والمطبّات، فيما الطريق إلى صنعاء لا تستغرق سوى ساعتين، فقط، من جهة خط مأرب، ومع أنّ الطريق الذي سلكناه ليس له من اسمه نصيب، إلا أننا استمتعنا بتلك العذابات اليمانية، فمناظر الجبال الشاهقة شديدة السواد، الغنية بالحديد والمعادن، والأشجار الباسقة، والأرض الطيبة، والنسائم العليلة، ومراعي الأغنام، والطبيعة الساحرة، أَسعدتْ أرواحنا وأمتعت ناظرينا، وزرعت في نفوسنا الفرح والسرور والأمل، بل والآمال العريضة لمستقبلٍ يمنيٍ جميلٍ ومشرقٍ، ليس ببعيد، إن شاءالله. 

 

 بيد أنه للأسف يشعر الزائر لليمن أنّ في البلاد دولةً ليست وطنيةً، بل لا تعرف الوطن مطلقًا، وليس الوطن في قاموسها_ بشقيها الشرعي وغير الشرعي _ دولةٌ تشبه دولة شيخةُ حَسينة في بنجلاديش، المشرد شعبها في أصقاع الأرض، لأجل عيون الهند، وإلا لكانت البلاد في أزهى وأقوى عصورها، لما حبى الله به هذه البلاد الطيبة من الخيرات والمعادن والثروات والسواحل والجزر والمضايق العالمية، لكنها دولة من شقين، كلاهما مرتهن للخارج، وبعضها شرٌ من بعض.   

 

وصلْنا العاصمة صنعاء ليلًا، ووجدنا الحفريات والمطبات والزحام على أشدّه في الشوارع والأسواق، ومع زخات المطر تستقبلك مآذن المساجد العالية بالتواشيح الصنعانية قبل كل صلاة، سيما صلاتي المغرب والفجر، وسط أجواءٍ من البأساء الشعبية، وتكدس البضائع لعدم وجود سيولة مالية لدى المواطنين، إلا فئةً قليلةً من الناس ممن يجري في أيديهم وجيوبهم شتى أنواع العملات والأموال والذهب والفضة والأخضر والأصفر والدولارات. 

 

 في صنعاء، الزحف السكاني الهائل طال كل شيء، حتى المتنزهات كمتنزه فجّ عطان وبعض الحدائق التي مررنا بها، لا تكاد تجد حديقةً في العاصمة صنعاء، لولا أنّ صنعاء هي بذاتها وتضاريسها وجبالها تعدّ حديقة غنّاء، طبيعيًا، بجبالها وأجوائها وخضرتها، ولذا يغادر الناس كل يومٍ عصرًا إلى الجبال المحيطة بصنعاء للنزهة والمقيل والاستمطار.

 

على اليمين مررنا بجامعة الإيمان سابقًا، وبعض الجامعات الأهلية السنيّة، المحتلة ظلمًا وعدوانًا، والتي تم نهبها وتدميرها، دون حكم قضائي ولا قانون، ولم يبق منها سوى أسوارها، المدبّجة بكتابات الحرب على أمريكا وإسرائيل والولاية لآل البيت عليهم السلام، فيما نشأت جامعات أخرى بديلة تتوافق مع السياق الثقافي الحسيني الاثناعشري الجديد!.

 

 حين تستمع وتشاهد القناة اليمنية التابعة لحكومة صنعاء، تشعر أنّ حكومة صنعاء حكومة مذهبية اثناعشرية، فكل شيء يحدثك عن المذهب الإثناعشري، الشارع والسوق والمسجد والأنوار الكهربائية والمدارس والمستشفيات واللوحات الضخمة والسيارات وحتى الموترات، والبهائم والحجر والشجر.!!.

 

وللأمانة نظرًا لغياب الدولة فيما أحسب، أو ضعفها، اختفت الحروب القبلية كحروب الحيمتين. التي لم تكن تتوقف، واختفت أزمة الكهرباء والبنزين وربما حتى أزمة المياه، إلى حد ما، والسبب أنّ من كان يشعل الحروب القبلية والأزمات الاقتصادية المتتالية، هو النظام الأسبق، وقد توفي رأسه رحمه الله، وإن كان العمل جارٍ لاستعادته، أو استعادة بقاياه.

 

و"رحمه الله" هنا لفظة تذكرنا بطرفة تتعلق ببعض المقابر في أوروبا التي يكتب عليها، "أيها الرب احترس فقد كان هذا الميّت لصًا كبيرًا". 

 

 ومن الطريف أثناء سيرنا رأينا من المشاهد المضحكه المبكية شخصان وثالثهما السائق، يقلّهما موتور سايكل، وكل منهما يحمل الكلاشنكوف ومخزن للقات في جنبي شدقيه ووسطه، ومع لبسهما للأكوات والجنبية وضخامتهما جداً جدًا، وازدحامهما فوق الموتور المسكين الذي يحملهما على مضض شديد، إلا أنك تراهما يعيشان أجواءًا رهيبة من الانتصارات الحسينية، بسبب تلك التخزينة المهولة وعلبة السيجارة التي في جيوبهم، فعجبتُ لهذا المشهد البائس، الذي يعكس ثقافة الإنسان المنحدرة، لأنه كان الأفضل لهما أن يركبا سيارة فارهة تقلهما، كما في الخليج، وأدركتُ أنّ المشكلة في الأفكار والثقافات والعقول، وكما قيل "ضع نفسك حيث شئت"!.

 

خلال الأيام القلائل التي قضيتها في صنعاء وباجل، أزعم أنه ليس صحيحًا أنّ الزيدية عادت إلى صنعاء بل عادت الحسينية الاثناعشرية، وهذا ليس سرًا، فقد صلينا الجمعة في حارة السنينة، بتاريخ ١٩/٧/٢٠٢٤، لنرى عجبًا عُجابًا فقد اعتلى المنبر خطيب الجمعة، يتحدث العامية حينًا، وحينًا يتحدث اللهجة الصنعانية، وحينًا العربية، خطب الناس لمدة ساعة وربع الساعة، عن العدوان وانتصارات جماعته على العدو الصهيوأميريكي، وذكر في نهاية خطبته أنه عدل عن خطبته التي كانت عن الإمام الحسين، رضي الله عنه، حين رأى في طريقه إلى منبر الجمعة إحدى صور الظلم والفساد القضائي، فخطب عن الظلم والفساد في البلاد، ثم في ختام الخطبة دعا دعاءًا طويلًا جدًا للأئمة الأطهار، وآل بيت النبي وذريّته وللسادة الهاشميين، وسرد قائمة بأسمائهم، ثم في ختام خطبته دعا المصلين للوقوف قيامًا، للبراءة من اليهود وأمريكا، فوقف الجميع في حماسٍ منقطع النظير، وألقى الجميع صرخةً هزّت المسجد وما حوله، ثم اصطف الناس لصلاة الجمعة.  

 

هذه الصورة ليست في مسجدٍ واحد، بل في كل مساجد العاصمة، بل وكل مساجد اليمن الواقعة تحت حكم حكومة صنعاء، فقد تم تغيير الخطباء والأئمة، وتعمم خطبة الجمعة على كل البلاد، واتسعت وانتشرت الدورات الثقافية لنشر ثقافة آل البيت، في كل مكان، وهو يؤكد ما قلناه قبل قليل، أنّ المذهب السائد حاليًا في البلاد والرسمي هو المذهب الإثناعشري، وليس الزيدي.

 وليت حكومة صنعاء تركت ولو هامشًا ولو يسيرًا جدًا، للمذاهب الأخرى، وفي مقدمتها المذهب الزيدي، سواء في صنعاء وما حولها، أو غيرها من المدن الواقعة تحت سيطرة الجماعة.

 

 إنّ ما تزعمه الجماعة من اضطهاد الوهابية للمذاهب، وقعت فيه هي أشدّ وأشنع وأقبح، وليتَ الجماعة فعلت ما تفعله الوهابية، ففي نجران والأحساء، وغيرها من المدن الخليجية، تزدحم مساجد الإسماعيلية والشيعة، وتؤدي كل فرقة من هذه الفِرق طقوسها المذهبية، وتعيش كلها في حماية الوهابية، وفي وسط البلد، وبلا نكير، ولا يتعرض مسجد واحد منها لأي شرٍ أو أذى، أو يفرض عليها مؤذن أو خطيب، على مدى عقود أو قرون، فهل تجد مساجد السنة في تهامة اليمن اليوم - كمثال - ذات المذهب السني الخالص، على مدى قرون متوالية، ما يجده الإسماعيليون في نجران أو الشيعة في الأحساء أو الخليج، ومنذ عقود أو قرون؟!. 

 

إنني أزعم أنّ المذاهب السنيّة تتعرض للاضطهاد في اليمن، وإحلال مذهب واحد أحادي، كبديل لها، ليس في صنعاء، بل وحتى في القرى والأرياف اليمنية، ومن ذلك قريتي في تهامة التي نزلت بها، فقد كان آخر عهدي بها قبل نحو ١٢ عامًا، أنها قرية سنيّة خالصة، وليس فيها شيعي واحد، وحين زرتها بتاريخ الجمعة : ١٩/٧/٢٠٢٤، وجدت أحدهم ممن كان لا يصلي وكنّا نحاول معه قبل عشرين عامًا أو أكثر، ليصلي ولو الجمعة فيتملص ويتهرب، وإذا هو هو نفسه قد استولى على المسجد وأمسك بزمام المسجد خطبةً وصرخةً وإمامةً، وصار مشرفًا حوثيًا يشار إليه بالبنان، مما اضطر الناس للصلاة في مساجد في قرية مجاورة أقل تشيّعًا!!!.

 

وهذه الأسطر أعتبرها دعوة صريحة للتعايش المذهبي وعدم تغيير الديموغرافيا السكانية للعاصمة صنعاء، ولليمن عموماً، فاليمن عبر التاريخ بلدٌ لا يمكن حكمه بمذهب واحد، ويتوجب فهم واستيعاب هذه الحقيقة الراسخة عبر القرون.

 

 أسواق صنعاء تعج بشتى أنواع الفواكه والخضروات والنّعم، واتجه الناس للعمل والاعتماد على الذات، ولذا تجد في الحارة الصغيرة البقالات والأسواق الكثيرة، فالجميع يصارع بكل قواه ليعيش، ومن الأسواق المحلية المشتهرة سوق مدينة باجل، فهو سوق تاريخي مليئ بالمنتوجات والحِرف الشعبية الرائعة، وقد تغيرت ملامحه كثيرًا عما عهدته، وأيضًا يعاني ما تعانيه كل الأسواق الشعبية في البلاد من تكدس البضائع والكساد.  

 

 أثناء عودتنا نحو منفذ الوديعة، بتاريخ الثلاثاء : ٢٣/٧/٢٠٢٤، صلينا الفجر في أحد مساجد صنعاء، وعقب الصلاة وقف بعض المحاويج أمام المصلين وهو شابٌ في مقتبل العمر، يبكي بكاء الثكلى، يقول للمصلين لا أريد منكم شيئاً، أريد فقط نصف كيس بُر دقيق لأخواتي في البيت.!!!!.

 

 في النقاط الأمنية حظينا بكل ترحاب من أفراد الأمن، مشكورين، منذ مغادرتنا صنعاء إلى منفذ الوديعة الحدودي، وقد وصلنا منفذ الوديعة الخميس ليلًا، ٢٥/٧/٢٠٢٤.

 

في منفذ الوديعة يجد المرء أحوالاً بل أهوالًا تذكره بيوم المعاد، فالطوابير طويلة جدًا، لها بداية وليس لها نهاية، وخالية من أي خدمات حيوية، دون مراعاة للأطفال والنساء والشيوخ والمرضى، الذين ينتظرون دورهم لأيام وليالي طويلة، في درجة حرارة : (٤٥ - ٥٠ درجة) والمرافق المتوفرة قرب هذا المنفذ البائس، تفتقر لأدنى عوامل النظافة والرعاية، فحين وصولنا كنّا قد ادخرنا بعض الأطعمة الخفيفة، ورأينا القطط الكثيرة في أحد المطاعم تنهش بقايا الطعام في أحد المطاعم، كما أنّ الغرف الفندقية سيئة للغاية، وبأسعار سياحية، وتزداد المحنة بانقطاع الخدمات في المنطقة الواقعة بين المنفذ اليمني و المنفذ السعودي، وتوجد دورات مياه متنقلة، بلا ماء ولا عمال ولا أدنى نظافة، ويظل الناس في تلك المنطقة الحارقة أيامًا في شدة الحر سيما مع حر الصيف الشديد، دون أن تجد أثرًا للدولة، إلا ما يأخذه الموظفون من عشرات الريالات بلا فواتير، وهو ما جعل حالات الوفيات في هذا المنفذ، تزداد، كما سمعنا، بسبب الأمراض المزمنة، أو الشيخوخة، أو الحرارة الشديدة، وانعدام الخدمات. 

 

أخيرًا لا آخرًا أختم هذه المذكرات ببعض التوصيات لمن يهمه الأمر، وبالله التوفيق. 

 

١. عدم التعرض للعقيدة الإسلامية والمذاهب الفقهية المتجذرة في كيان الشعب اليمني على مدى قرون، ومن يفعل ذلك فليعلم أنّ زواله قريب، وأن التاريخ خير شاهد.

٢. مفتاح الحل في الأزمة اليمنية برمتها التحرر من الأغلال والتبعية للخارج، وعودة اليمنيين إلى طاولة الحوار، وفق المرجعيات الثلاث، أو على الأقل وفق السلطة الشرعية التي تحظى باعتراف دولي، والسعي نحو مرحلة انتقالية ثم مرحلة انتخابات رئاسية ونيابية بإشراف قضائي.  

 

٣. النظر إلى معاناة الشعب اليمني، والعمل على إصلاح الملف الاقتصادي، كمدخل للحل الشامل. 

٤. العمل على تحسين وتطوير منفذ الوديعة، والعمل على التنسيق مع دول الجوار لحل محنة الزحام وتكدس المسافرين لأيام وليالي طويلة، وتزويد المنفذ بعمال النظافة والموظفين الأكفاء، ونقل المنفذ إلى المبنى الجديد المجاور ، بعد إصلاحه وتهيئته لاستقبال المسافرين، وتخصيص واردات المنفذ ليوم أو يومين لتحسين مظهر المنفذ.  

٥. إلغاء كافة الرسوم والضرائب والجمارك إلا وفق قانون وفواتير رسمية، ووضع لوحات في المنفذ تحظر دفع رسوم دون فواتير رسمية.

٦. العودة إلى الله والتوبة إليه وإصلاح ذات البين. 

٧. إيقاف التجريف الثقافي والفكري في المناهج ووسائل الإعلام. والعمل على رأب الصدع، وتعويض المتضررين أفرادًا ومؤسسات وجامعات، من الأحداث على وجه السرعة.

 

والحمدلله رب العالمين.

 

Moafa12@hotmail.com